الإنسان.. واللاعنف
بقلم:
أيمن هشام عزريل
يقع العنف في موقع
النقيض من الفطرة الإنسانية السليمة، والتي خلقها الله مع الإنسان لحظة خلقه، والمجبولة
على التعايش السلمي وأسس التسامح والتعاون والنفع المتبادل. في حين ينتج عن العنف
الفرقة والتشرذم والتناحر والذي نهي الله عنه في مواقع كثيرة في القرآن الكريم، بل
قد يضطر ببعض الناس وبعض القبائل والعشائر على إثره، إلى الهجرة والتشرد من أماكن
سكناهم والعيش منفردين، ملاذاً للفرار اتقاء عواقب ما اقترفه، أو كان مُعنَّفاً،
وهارباً طلباً للسلام والأمان.
مع العنف لا أمل لبناء
مجتمع إنساني متحضر مثقف واعي متعايش، يشيع فيه الهدوء والسلام؛ لأن العنف
والتصارع والاقتتال هو النظام الذي يسود مجتمع الغابة، الافتراس والغدر واقتناص
الضعيف. وإن كانت أموراً مبررة في حدود شريعة الغاب لضمان البقاء وتأمين القوت،
إلا أنها على كل حال لن تصنع مجتمعاً مثالياً لكي يسعى الإنسان إلى اقتفاء أثره، والسير
على خطاه، وتطبيق نظرياته، المفترضة، في واقعه، لضمان البقاء. فليس البقاء هو أسمى
ما يسعى له الإنسان في هذه الحياة، بل ثمة قيم إنسانية أخرى قد تقتضي من الإنسان
التخلي عن حقه في الحياة، والتضحية بدمه للحفاظ على ما هو أهم وأغلي وأثمن؛ أي تلك
الأشياء التي لو فقدت لما عاد لوجود الإنسان في الحياة أية قيمة لها أو معنى، ولا
أدل على ذلك مما تواضعت عليه الأعراف الإنسانية بضرورة التضحية دفاعاً عن الأرض والعرض
وقيم معنوية أو عقدية أخرى، وفي هذا الإطار يكون العنف دفاعياً ومبرراً في نفس
الوقت؛ إذ لا يمكن أبداً مقارنته بالتعدي وابتداء العنف وظلم الآخر المسالم وغبن
حقوقه.
ومن ألوان العنف
الأكثر انتشاراً في مجتمعاتنا هذا اليوم الاستبداد والتعسف السلطوي، الذي هو نتاج
انحراف إنساني، يصدر في الغالب عن أنفس مريضة متعفنة متخمة بلا مضمون، لكنها تربعت
على السلطة في غفلة من الزمن، هذا الانحراف غير السوي في السلوك الإنساني أدى عبر
تاريخ البشرية، إلى ظهور أشكال متعددة من القمع والاضطهاد والحرمان والإقصاء،
قتلاً أو نفياً أو منعاً من التمتع بحقوق فردية مشروعة، قد سنها الله ومنحها له، فعبر
القارات أو عبر الحدود وبين الإنسان وأخيه الإنسان، صور كثيرة في العنف
والاضطهاد، وفي كل زمان ومكان يتناسخ القهر والاستعباد واستلاب الحقوق.
الإنسان، هذا الكائن
الضئيل الضعيف البسيط والمنسي جدا في أحيان كثيرة، يمكن له أن يتضخم ويتحول إلى
طوفان من التجبر والطغيان، ويمكن أن يسحق تحت قدميه أي شيء وأي أحد، طالما أن لا
رادع يرسم له حدود تصرفاته أو يكبح جماح رغباته، فهو منفتح على كل الاحتمالات
دائماً، فمثلما غرست الفطرة والتسامح والحب في نفسه، فهناك أيضاً استعداد وقابلية
في هذه النفس أن تَفْجُر وتؤذي وتطغى وتظلم، فلا توجد مشارطه مسبقة على أن يكون
اسم هذا الإنسان (فرعون) أو (نمرود) أو (هتلر) أو أي اسم آخر يشير إلى احد
الطواغيت الماضين أو المعاصرين لكي يكون مستبداً ومجرماً؛ بل يكفي أن يكون إنسانا
بلا كوابح ولا ضمير ولا قيم رادعة، أو لا يقع تحت طائلة قانون يحدّ من عواقب
أعماله ويقيد نزعاته وتصرفاته، لكي يفوق كل هؤلاء الجبابرة في الفتك والانتهاك
وارتكاب الفظائع بحق أخيه الإنسان.
صفحات التاريخ وذاكرة
الأرض تحمل الكثير من أسماء العنفاء والمتعسفين بحقوق بني البشر، سمعنا ببعضهم ولم
نسمع بكثيرين غيرهم، لكن أين وصلت بهم أعمالهم اليوم، أفي حضيض اللعنات، أم في
مزابل التاريخ، أم في غياهب النسيان، أم في مكان وضيع لا تستطيع مخيلتنا الوصول
إليه؟ ربما لنا أن نتخيلهم الآن وهم يعظّون على أصابع أيديهم ندمهم القذر لما
اقترفوه طوال حياتهم، فتسيل على أفواههم عذابات ما اقترفوه من جرائم.
في سياق مناهضة العنف
يبرز اسم الإنسان والقائد الهندي (المهاتما غاندي)، الذي كرس نفسه لجعل اللاعنف
شريعة للإنسان ليحتذي بها الكثير من البشر، وسعى لتجسيد المفهوم المطلق اللاعنف،
إذ لم يكتفِ بنبذ ومجابهة العنف ألاعتدائي، بل جابه كذلك العنف الدفاعي، ودعا إلى
مواجهة العنف بالسلام. حيث أراد أن يكون هو وشعبه مظلوماً لكي ينتصر. ويقول لتبيين
هذا المبدأ: "الدعوة إلى اللاعنف موجودة لدى كلِّ الديانات، لكني أعتقد
باعتزاز أن الهند - ربما - هي التي، من خلال تجربتها، حوَّلت هذه الدعوة إلى علم
... من الضروري إعادة إحياء القانون الأزلي الذي يردُّ على الغضب بالحب، وعلى
العنف باللاعنف" ... فقد قام بدعوة شعبه إلى مجابهة الرصاص بالصدور العارية؛
لفضح الظلم والاستبداد، أملاً في انتصار قضيتهم العادلة والحصول على الخلاص، ولهذا
يؤكد غاندي وبأساليب مختلفة بأن "اللاعنف هو شريعة الجنس البشري. وهو أكبر
وأسمى بما لا يقاس من شريعة القوة الغاشمة القاهرة ذات السلاح الفتاك بالشعوب".
صحيح أن طروحات غاندي،
ومن سار على نهجه، قد تبدو مثالية بعض الشيء، لأنها تهدف إلى نزع غريزة الشر
والاستعداد العنفي من باطن الإنسان، إلا انه ينوه أن من يؤمن بها عليه التهيؤ لأن
يخسر الكثير، فيقول: "اللاعنف هو الطبيعة الفعلية للأشياء، وإن كان لا يفيد
في الدفاع عن المكتسبات غير المشروعة، والأفعال غير الأخلاقية، لذا يجب على
الأفراد أو الأمم الذين يطبقون اللاعنف أن يكونوا مستعدين للتضحية بكل شيء (حتى
آخر رجل بالنسبة للأمم) ما عدا التضحية بشرفهم".
نحتاج كثيراً، اليوم،
لإشاعة مبادئ اللاعنف والتسامح والحوار والسلام في عالم تفوح فيه رائحة القتل والموت،
وتطّرد فيه كبار تجار الحروب ودعاتها والمطبلين لها في كل بقاع الأرض.
الاسم: أيمن هشام محمود عزريل
جوال رقم: 0599549301
E-mail: uzrail@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق